استقلال القضاء الليبي: بين التهديدات المسلحة وآمال الإصلاح القضائي
تحديات راهنة وآفاق مستقبلية لبناء دولة القانون
حوار مع الأستاذ رمضان العمامي
المدعي العام السابق في بنغازي، جمهورية ليبيا، وناشط حقوقي
___
لا يمكن القول اليوم، أن مبدأ استقلال القضاء الذي كرسه الإعلان الدستوري يحضى بالتطبيق الأمثل في ليبيا، بل تواجهنا عديد التحديات، التي تحتاج بالدرجة الأولى إلى إرادة سياسية صادقة ودعم مجتمعي وللأسف الاثنين لا وجود حقيقي لهما.
1. يضمن الإعلان الدستوري الليبي لعام 2011 استقلال القضاء، ومع ذلك تشير أحدث التقارير الصادرة عن المجتمع المدني الليبي والدولي وبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (2023-2024) إلى تزايد تدخل الجماعات المسلحة في مسار العدالة. كيف تقيمون تطبيق هذه المبادئ في السياق الليبي الحالي؟
من نافلة القول، مبدأ استقلال القضاء هو أحد أهم ركائز سيادة القانون، وهذا ما كرسه الإعلان الدستوري الليبي الصادر في أغسطس 2011 في مادته (31)، حيث نص صراحة على أن "القضاء سلطة مستقلة، لا سلطان عليه لغير القانون، ويصدر أحكامه وفقاً للتشريعات النافذة". إلا أنه بمتابعة حالة القضاء بالإضافة إلى التقارير المختلفة سواء الصادرة عن بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا أو غيرها من المنظمات غير الحكومية الدولية منها والمحلية نجدها تؤكد جميعها إلى أن الواقع مغاير لذلك تماما.
يتجلى هذا الواقع في التغول الذي يشهده المشهد القضائي للمجموعات المسلحة المختلفة، وخصوصا تلك التي تسيطر على مراكز احتجاز مختلفة في كل أرجاء البلاد. فقد اكتسبت هذه المجموعات مكانتها وقوتها من النزاعات المسلحة التي عانت منها ليبيا طيلة السنوات الماضية، وجعلتها في أوقات كثيرة تملك قوة لا قبل للقضاء بها،.فلا يمكن إغفال أن القضاء ليس له إلا القلم والحكم، وإن لم يكن هناك سلطات تنفيذية قادرة وراغبة في تنفيذ أوامر القضاء وأحكامه، فإنها تظل حبرا على ورق. ويتجلى ذلك في تصريحات السيد النائب العام الأخيرة، والتي اشار فيها إلى سيطرة المليشيات، وفق تعبيره، على معظم مراكز الاحتجاز، وعدم قدرة الأجهزة المنوط بها إنفاذ القانون على القيام بواجبها، بسبب الخوف في أحيان كثيرة وذكر العديد من الأرقام والإحصاءات المتعلقة بتنفيذ الأحكام التي توضح مدى تدهور الحال.
ناهيك أيضا عن الانقسام السياسي والزج بالقضاء في معارك سياسية كان الأجدر أن ينأى به بعيدا عنها. زد على ذلك الاستهداف المستمر للقضاة وأعضاء النيابة والمحامين بالاعتداء والتهديد والاحتجاز بسبب طبيعة القضايا المعروضة عليهم سواء الجنائي منها، والتي يكون أحد الخصوم فيها من المتنفذين في المجموعات المسلحة، أو بسبب طبيعتها السياسية في أحيان كثيرة.
لذلك لا يمكن القول اليوم، أن مبدأ استقلال القضاء الذي كرسه الإعلان الدستوري يحضى بالتطبيق الأمثل في ليبيا، بل تواجهنا عديد التحديات، التي تحتاج بالدرجة الأولى إلى إرادة سياسية صادقة ودعم مجتمعي وللأسف الاثنين لا وجود حقيقي لهما.
2. بالنظر إلى انعدام الأمن المستمر والهجمات الموثقة على القضاة والمحامين، كما ورد ذلك في تقارير مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان لعام 2023، وبالنظر إلى تجارب مماثلة، مثل حالة جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث تم استخدام المادة 26 من الميثاق الأفريقي، لدعم إعادة بناء النظام القضائي بدعم من بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في ليبيا (مينوسكا)، هل تعتقد أن هذه المادة لا تزال أداة فعالة لحماية استقلال النظام القضائي الليبي؟ ما هي الدروس التي يمكن تعلمها من مبادرات المجتمع المدني والمنظمات الأفريقية في هذا الصدد؟
قبل الحديث عن مدى جدوى الركون إلى المادة 26 من الميثاق الأفريقي، أو أي آليات أخرى قد تلعب دورا في تعزيز استقلال القضاء ومكافحة الإفلات من العقاب، علينا أولا تقييم المشهد من زوايا عديدة والتفكير في الأسس والركائز التي تجعل من أي خطة أو آلية فاعلة لضمان استقلال القضاء. وهنا في وجهة نظري البسيطة، أرى أن هناك ثلاث عوامل أو ركائز أساسية يجب توفرها لنجاح أي مبادرة، وهي كالتالي:
أولا: يجب أن تكون أي آلية مستحدثة لدعم استقلال القضاء مستقلة وفاعلة وتتماشى مع واقع الحال، وتصمم بناء على إشكالياته لتخلق لهذه الإشكاليات حلولا فاعلة، سواء كانت هذه الآلية دولية أو إقليمية أو حتى محلية وتكون قابلة للتنفيذ على أرض الواقع.
ثانيا: توافر الظروف والبيئة المواتية لنجاح هذه الآلية، بالإضافة إلى القبول والدعم المجتمعي الكامل للقضاء والقبول بأحكامه، وإن كانت ضد من ندعمهم سياسيا. ولكن للأسف وبالرغم من حالة الامتعاض وعدم الرضا المجتمعي، إلا أن الاستقطاب السياسي الحاد والتمترس الجهوي والمناطقي يقف حجر عثرة أمام هذا الدعم. وعلى الشعب أن يعي أن لا خلاص مما نحن فيه إلا بقضاء قوي ومستقل ومكافحة حقيقية وفاعلة للإفلات من العقاب، وأن نؤسس بأنفسنا لواقع مغاير، إذا ما أردنا أن نصل إلى بر الأمان.
ثالثا: وهي الركيزة الأهم، تتمثل في الإرادة السياسية القادرة والراغبة في إحداث التغيير في المشهد ككل بشكل عام، وبالأخص تعزيز استقلال القضاء بمعناه المتكامل، وأن تسعى لضمان عدم الإفلات من العقاب. وللأسف هذا ما يغيب بالكلية عن المشهد الليبي لكونه جزء ليس باليسير من المتصدرين للمشهد وصناع القرار الذين لا يرغبون أبدا في المضي قدما في تعزيز استقلال القضاء ومكافحة الإفلات من العقاب، ويسعون دائما إلى تجيير أحكامه لمصالحهم. بالإضافة إلى، كون الكثير منهم قد تطالهم المحاسبة، بسبب ما ارتكبوه من جرائم وانتهاكات على مدار سنوات، وهنا لا أتحدث فقط عن جرائم مثل الاحتجاز غير القانوني والقتل والتعذيب وغيرها، وإنما أشمل أيضا جرائم الفساد التي تطال كثيرين ممن لن يسمحوا بأي شكل كان من الوصول إلى استقلال فاعل للقضاء والوصول إلى المحاسبة، لأنها سوف تقصيهم بكل تأكيد.
ما دفعني لوضع هذه الركائز هو تقييم تجربة أفريقيا الوسطى، فبالرغم من النتائج التي حققتها التجربة، إلا أنها اصطدمت بذات الواقع الذي اشرت إليه سابقا، فلا يزال الإفلات من العقاب قائما في أفريقيا الوسطى، خصوصا فيما يتعلق بالقيادات العليا وكبار المسؤولين في ظل اتفاقات السلام التي أبرمت، بالإضافة إلى ضعف الإرادة السياسية، التي لم توفر الموارد الكافية لإنجاح التجربة بالشكل الأمثل، وأيضا انتقائية هذه العدالة. والأهم هو استمرار تعرض القضاة للتهديد والتخويف، ونتج عن ذلك هروب بعضهم خوفا على حياتهم، الأمر الذي يجعلنا نفكر أولا وقبل الحديث عن الآلية وماهيتها أن نهيئ البيئة اللازمة لضمان نجاح أي آلية كانت في ضمان استقلال القضاء ومكافحة الإفلات من العقاب.
3. تشير عديد من التقارير (الاستعراض الدوري الشامل 2024، بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا 2023) إلى أن الجماعات المسلحة لا تنفذ أوامر الإفراج الصادرة عن المحاكم.
ما هي الآليات العملية، بما في ذلك التوصيات الرامية إلى تعزيز سيادة القانون، التي يمكن أن تعيد هيبة القرارات القضائية؟
في البداية، علينا إعادة النظر في البنية التشريعية الحاكمة في هذا الإطار، وعلى رأسها قانون الإجراءات الجنائية وقانون العقوبات، واستحداث نصوص تواكب واقع الحال وتتماشى معه وتقدم حلولا عملية للتغلب على هذه الإشكالية. بالإضافة إلى، إعادة النظر في السلطات التي تقوم على إنفاذ القانون وتنفيذ أحكام القضاء، كون السنوات الماضية حملت تشوها كبيرا في هذه السلطات من تداخل في الاختصاصات ومنح صلاحيات واسعة لمجموعات مسلحة تم شرعنتها وإدخالها ضمن أجهزة الدولة الرسمية، دون أن يكون هناك أي نوع من آليات التصنيف والإبعاد لمن ثبت في حقهم ارتكاب جرائم أو انتهاكات جسيمة، ولا يصح بأي شكل أن يتولوا مسؤولية إنفاذ القانون وتطبيق أحكام القضاء. ولكي نتمكن من إعادة الأمور إلى نصابها، يلزم إعادة النظر بشكل كامل في هذه المجموعات وصلاحياتها والأفراد المنخرطين فيها سواء على مستوى القيادات أو الأفراد، ناهيك عن ضعف الأداء وعدم الخبرة والكفاءة لدى كثيرين انخرطوا في هذه الأجهزة، دون أن تكون لديهم الدراية الكافية بالأدوار المنوطة بهم وحدود صلاحياتهم ومدى إلزامية انصياعهم لقرارات وأحكام القضاء. مما جعل بعضهم ينصب نفسه قاضيا يصدر الأحكام المسبقة، ويرى أن هذا مذنب، وذلك خارج عن القانون، أو قيم المجتمع، ويجب معاقبتهم ولا يقبل الالتزام بالمبادئ والقواعد الاساسية للمحاكمة العادلة، وأن يعوا أن دورهم ينتهي عند حدود صلاحياتهم، وأن يرغموا على التوقف عن ممارسة الضغوطات على القضاة وأعضاء النيابة، وأن ينصاعوا لأوامر وأحكام القضاء. وعليهم أن يعلموا جيدا، أن ما يرتكبوه من جرائم سيأتي يوم لمحاسبتهم عليه، حتى وإن تأخر، فهذه الجرائم لا تنقضي أو تسقط بالتقادم. فهم ليسوا حراسا للفضيلة ولا للقانون، ولهم دور محدد رسمه المشرع وعليهم التقيد به دون غيره، وأن هذه الادوار لم توضع من قبيل العبث، وإنما فرضتها مبادئ عليا أسمى. بالإضافة إلى التجربة البشرية، التي علمتنا أن التمسك بمبادئ الحق والإنصاف والعدالة أولى بالتطبيق، وإن يفلت من العقاب ألف مذنب، خيرا من أن يعاقب بريء واحد.
4. تم الإبلاغ عن انتهاكات خطيرة في مراكز الاحتجاز، بما في ذلك حالات موثقة للتعذيب (على سبيل المثال...؟). ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه المحامون ونقاباتهم المهنية في توثيق هذه الانتهاكات وتعبئة آليات المساءلة على المستويين الإقليمي والدولي؟
المحامون هم رأس الحربة في هذه المعركة، كونهم من يقع على عاتقهم مسؤولية الدفاع عن ضحايا الانتهاكات بالدرجة الأولى ودورهم محوري في توثيق هذه الانتهاكات وإثارتها والتمسك بها أمام القضاء بدون هوادة، بما يشمل أيضا، اللجوء في حالات كثيرة إلى الآليات الدولية المختلفة، سواء لغرض الملاحقة القانونية الدولية او لكشف هذه الجرائم وفضح مرتكبيها. ولكن هذا لا يمكن أن يكون في ظل هذه الحالة من الاستهداف التي تطالهم، ويجب أن تكون هناك أيضا آليات خاصة لحماية المحامين أثناء قيامهم بواجبهم فهم ركن أساسي وأصيل في منظومة العدالة. وأن يكون هناك عمل جماعي للمحامين بشكل أكثر تنظيما، قد تلعب فيه النقابة العامة والنقابات الفرعية للمحامين دورا محوريا يساهم في تحسين الحال المتدهور.
5. كثيراً ما يُنتهك حق المحامين في التواصل مع موكليهم المعتقلين( اذكر أمثلة، إن أمكن)، بما يخالف المادة 24 من القانون رقم 3 لسنة 2014 والمادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. ما هي التدابير العاجلة التي تقترحونها لضمان احترام هذا الحق الأساسي في السياق الليبي الحالي، استناداً إلى توصيات لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة؟
لهذه الانتهاكات عدة أسباب، منها ما يتعلق بالبنية التشريعية، ومنها ما يتعلق بالممارسات أو الأعراف الإجرائية التي استقر عليها العمل، وقد حان وقت التصدي لها بقوة. للأسف، جرت العادة أن المحامين دورهم يبدأ بشكل أكبر أمام النيابة العامة، وبشكل حقيقي وكامل أمام القضاء. ولا يرتب القانون البطلان على غياب المحامي، إلا في مراحل معينة، وحسب تصنيف الجرائم كالجنايات، ويفضل الكثير منهم تجنب الصدامات وعدم التدخل بشكل فاعل في المراحل الأولى، وقبل وصول الدعوى إلى النيابة العامة. والتمس لهم العذر، ولكن هذا لا يعني القبول والرضوخ، بل يجب أن يكون هناك وقفه جادة أمام هذه الممارسات. أصبحت الضرورة اليوم ملحةً لأن يكون حضور المحامي وجوبيًا في كل مراحل الدعوى، من اللحظة التي يتم فيها احتجاز حرية شخص أو استدعائه لسماع أقواله حول واقعه معينة، وأن يكون نتيجة عدم احترام ذلك، هو البطلان لما ينتج من إجراءات وقعت في غيبة المحامي. لأن الواقع العملي يؤكد أن معظم الانتهاكات تحدث خلال الساعات والأيام الأولى للاحتجاز، فمن الأولى أن تحاط هذه الفترة بأعلى درجات الحماية، لضمان حقوق الأشخاص، لذلك من الواجب أن تكون بحضور محامي، وفي نفس الوقت يجب أن تكون هناك حماية للمحامين في هذه المراحل من الدعوى، وأن يتمكن من لقاء موكله بسرية كاملة، وألا يتعرض المحامي لأي ضغوطات من شأنها أن تؤثر على سير العدالة. وللعلم، هذا ليس بالغريب وأنما معظم النظم القانونية في العالم تسير وفق هذا المبدأ ونحن اليوم في أمس الحاجة إليه.
لذلك، يمكن إجراء تعديلات تشريعية لتعزيز ذلك، بالإضافة إلى وضع بروتوكول للتعامل يتم إعداده، بالتعاون بين نقابة المحامين ومكتب النائب العام على اعتباره الأمين على الدعوى العمومية، وكذلك وزارة الداخلية ووزارة العدل يتم فيه تحديد هذا الإطار بشكل واضح ودقيق، ويتم تدريب القائمين على إنفاذ القانون عليه وتبيان إلزاميته ومحاسبة من يخترقه.
6. في ظل غياب الرقابة القضائية الفعالة على مراكز الاحتجاز (تسليط الضوء والتذكير بحالة بعض مراكز الاحتجاز)، وفي حين تدعو بعثة الأمم المتحدة إلى الرقابة المستقلة، هل تعتقد أن إرسال بعثة دولية مستقلة لمراقبة العدالة في ليبيا أمر ممكن ومرغوب فيه؟
السؤال يتناول الإمكانية والقبول، واعتقد أن الأجدر بالنظر هو الحاجة إلى ذلك. وهنا أقول أننا بالفعل في حاجة ماسة لهذه الآلية، ليس فقط لغرض الرقابة وهذا أمر غاية في الأهمية وهناك حاجة ماسة له، بل أكثر من ذلك فالتجارب السابقة أثبتت أن وجود لجان التقصي والتحقيق والمتابعة الدولية يشكل نوع من الردع للمجموعات القائمة على مراكز الاحتجاز. وفي الآونة الأخيرة، بعد تصاعد عمليات المتابعة الدولية لمرتكبي الانتهاكات، أصبحت هذه المجموعات تضع نصب أعينها مثل هذه الآليات وتخشى ملاحقتها. لذلك، من الأهمية بمكان أن توجد مثل هذه الآلية، في ظل ما أشرنا له من صعوبات وتحديات تواجه القضاء في لعب دوره بشكل كامل. وهذا ما أشار له بوضوح السيد النائب العام، الأمر الذي يجعلنا في حالة من الحرج بأن نطالب بهذه الآليات لضمان تحقيق العدالة ومحاسبة من يقف أمام تحقيقها بكل السبل.
7. في مواجهة الهجمات والتهديدات ضد القضاة والمدعين العامين والمحامين، ما هي الإصلاحات الملموسة التي توصي بها، مستوحاة من مبادئ بنغالور بشأن استقلال القضاء وتوصيات مجلس حقوق الإنسان، لتعزيز حماية هؤلاء الفاعلين وضمان استقلالهم المؤسسي؟
ترتكز مبادئ بنغالور للسلوك القضائي الصادرة في نوفمبر 2002، على ضرورة استقلالية القضاء ونزاهة القاضي ولياقته ومساواته بين الخصوم، وأن يكون على درجة من الكفاءة والاجتهاد، وأن يكون مسؤول عن أفعاله ومسلكه. وإذا ما أردنا استخلاص توصيات للإصلاح القضائي تقوم على هذه المبادئ، بالإضافة إلى توصيات مجلس حقوق الإنسان، يمكن إجمالها في التالي:
إصلاحات قانونية تشمل إعادة النظر في المنظومة القانونية القائمة وإدخال تعديلات عليها بما يضمن عدم التدخل المباشر وغير المباشر في العمل القضائي من قبل السلطات المختلفة، بما فيها المجموعات المسلحة والفاعلين السياسيين. كما يجب أن تشمل تشديد العقوبات على التدخل في أعمال القضاء أو الامتناع عن تنفيذ قراراته وأحكامه، ويلزم إشراك المجتمع المدني في الرقابة على تنفيذ هذه الإصلاحات وقد يلزم الأمر رقابة دولية مصاحبة لتحديد المعرقلين لعمل القضاء.
إصلاحات مؤسسية تشمل ضمان الاستقلال التام والكامل للمجلس الاعلى للقضاء إداريا وماليا عن السلطة التنفيذية، كما يلزم إنشاء هيئة خاصة ضمن هياكل المجلس الأعلى للقضاء، دورها الرصد والتوثيق للانتهاكات والتهديدات والتدخلات التي قد تطال القضاء وتؤثر عليه بشكل مباشر وغير مباشر أو تؤثر على أحكامه وقراراته، وأن تحيل ذلك إلى مكتب النائب العام للتحقيق فيها وإتخاذ الخطوات اللازمة لمحاسبة مرتكبيها.
تعزيز آليات الحماية الأمنية للمؤسسات القضائية والقضاة وأعضاء النيابة العامة. ويمكن أن يستفيد من هذه الحماية المحامين، إذا تعرض أي منهم للتهديد والضغط، بسبب القضايا التي يعملون عليها. ويلزم أن تشمل الحماية أيضا الحماية الرقمية، وما قد ينتج عنها من استهداف وتهديد قد يطال الفاعلين في المنظومة القضائية. ويجب أن يكون هناك برامج خاصة بالحماية في حال تعرض أي من المشتغلين بالقضاء للتهديد، توفر لهم آليات حماية خاصة، لكي يعملوا وهم على يقين أنهم يحظون بالحماية الكاملة من ضغوطات وتهديدات. الأمر الذي سوف يؤثر إيجابيا بشكل كبير على استقلالهم وقدرتهم على القيام بمهامهم بكل ثقة وأمان.
لكي نضمن أن هذه الآليات تعمل بشكل متكامل وفاعل، يجب أن تصاحبها برامج التدريب وبناء القدرات ورفع كفاءة وجدارة كل العاملين في المنظومة القضائية، بالإضافة إلى برامج التوعية المجتمعية حول استقلال القضاء وزيادة الدعم المجتمعي، لنصل إلى مرحلة يعلم فيها كل من يريد التدخل في عمل القضاء أو عرقلته أو التأثير فيه بأي شكل كان، أنه لا يستطيع تحمل التكلفة السياسية لذلك وبهذا يتحقق الردع.
قد أكون حالما أو غير واقعي في هذا الطرح، ولكن في وجهة نظري البسيطة أن هذه الخطوات على صعوبتها، إلا أنها قابلة للتنفيذ وستوفر لنا بيئة قضائية في المستقبل تكون هي الدرع الذي نحتمي به ويساهم في انتشالنا مما نحن فيه، ويقينا أيضا من تكرار التجربة المريرة التي نمر بها الآن.
8. كيف تقيمون دور نقابات المحامين الليبية اليوم في حماية استقلال القضاء؟ هل ينبغي لها، استجابة لتوصيات اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، وأن تعزز تعاونها مع الآليات الإقليمية والدولية للحصول على الدعم الفعال؟
رغم صعوبة السياق، فإن نقابات المحامين الليبية ما تزال تؤدي دورًا مهمًا، لكنها مطالبة اليوم بإتخاذ دور مختلف. يمكن القول، أن النقابة التزمت مؤخرا بالدور التنظيمي لأعمال المحامين، بالإضافة إلى دورها المهم في حمايتهم والدفاع عنهم فيما يتعرضون له من مضايقات وانتهاكات، ويمكن وصف هذا بسياسة رد الفعل. ولكنها اليوم ووفق واقع الحال ملزمة بأن تتخذ موقفا مبادرا أكثر، ولا تقف عند ردات الفعل. لطالما كان لنقابة المحامين في السابق أدوار أكثر تفاعلا مع الشأن العام، ولها تاريخ في ذلك، وهنا لا يسع المقام لسرد ذلك. واركز على دورها في دعم منظومة العدالة واستقلال القضاء ومكافحة الإفلات من العقاب. كما أشرت في بداية الإجابة عن هذا السؤال أن السياق العام يفرض نفسه على الجميع ولا يمكن التحرك بمعزل عنه، ولكن هذا لا يعني عدم المبادرة الفاعلة وفق المتاح من خلال إتخاذ عديد الخطوات مثل تشكيل لجان الرصد والتوثيق التابعة للنقابة ولجان المراقبة والمتابعة والتفاعل مع الآليات الدولية والإقليمية.
على سبيل المثال، إذا اطلعنا على المادة الأولى من القانون رقم 3 لسنة 2014، حيث نصت بوضوح على "المحاماة مهنة حرة مستقلة وهي ركن من أركان العدالة تعمل على تحقيقها وعلى حماية الحقوق والحريات". بالإضافة إلى، المادة 59 من ذات القانون والتي تحدد أهداف عمل النقابة، نجدها تعطي مكانة واسعة للنقابة، بأن تكون مبادرة في صون الحقوق والحريات وعقد الشراكات والتدريبات، سواء مع كليات القانون أو الجهات الدولية، وفي الحقيقة هذا يحدث، ولكن على استحياء. وما أرجوه من النقابة أن يكون لها دور أكثر تفاعلا وأن تنفتح أكثر على الشراكات المحلية والدولية، وفق ما يقتضيه واقع الحال، مثل تفعيل التعاون من خلال توقيع مذكرات تفاهم، والمشاركة المنتظمة في آليات التقارير الدولية، وتعزيز التدريب المتبادل.
9. إن عدم احترام الحق في المحاكمة العادلة، والذي يتجلى في تأخير المحاكمات وطول فترات الاحتجاز (وفقًا لدليل عام 2023 وتقارير مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان لعام 2024)، يقوض مصداقية النظام القضائي.
ما هي الأولويات التي يجب أن نعطيها لاستعادة ثقة المواطن الليبي في النظام القضائي؟
لا أرى أن هناك فقدان الثقة في القضاء، بل هو أخر حصن يمكننا الركون إليه، ولكن لا يعني هذا، أن هذه الثقة أصبحت تتآكل مع مرور الوقت وكثرة الهنات وتزايد التحديات، وعلى كل مشتغل ومعنى بالمنظومة القضائية في كل المستويات أن يجعل من تعزيز الثقة في القضاء شغله الشاغل، هذا على الصعيد الفردي، ولكن لضمان تعزيز الثقة في القضاء، نحن بحاجة إلى خطة وطنية شاملة تتناول بكل شفافية وتوضح الإشكاليات والعقبات التي تواجهها المنظومة العدلية بشكل كامل، وأن تتضافر جميع الجهود على كافة المستويات من الوزارات المعنية إلى المجلس الأعلى للقضاء، ومكتب النائب العام، ونقابة المحامين، والمجالس التشريعية، يتم فيها حل إشكاليات عديدة مثل طول أمد التقاضي، وخروج عديد من مراكز الاحتجاز عن سلطة الدولة كليا أو جزئيا، وإعادتها بشكل كامل تحت رقابة كاملة ومطلقة للقضاء. بالإضافة إلى اقتراح تعديلات تشريعية تتماشى مع واقع الحال لضمان تحقيق العدالة واحترام أحكام القضاء، ويجب أن يتزامن هذا كله مع إعادة النظر في قدرة وكفاءة القائمين على منظومة العدالة، بما يشمل رجال إنفاذ القانون. ولا يمكن بأي حال إغفال حملات التوعية الشعبية بضرورة احترام الحق في التقاضي واحترام أحكام القضاء وتعزيز ثقة الجمهور فيه.

