القضاء التونسي تحت الضغط : شهادة يوسف بوزاخرآخر رئيس للمجلس الأعلى للقضاء الشرعي
حوار مع السيد يوسف بوزاخر
قاضي عدلي تونسي منذ سنة 2000 عمل بعدة محاكم تونسية منها بنزرت قبل ان ينقل الى جندوبة إبان الانقلاب على جمعية القضاة سنة 2005 وكان عضوا بهيئتها الادارية ثم إلى تطاوين وبعد ثورة 2011 انتخب لعضوية الهيئة الوقتية للقضاء العدلي سنة 2013 وتمت إعادة انتخابه عضوا بالمجلس الأعلى للقضاء سنة 2016 الذي ترأسه مؤقتا في 2018 قبل اعادة انتخابه رئيسا له بعد اكتمال تركيبته في 2019 الى حين حله من رئيس الجمهورية في 2022 ثم إعفائه من بين 57 قاضي تم اعفائهم بأمر رئاسي في 1 جوان 2022
و« كان ردنا في كل مرة أن عملية التطهير أو لنقل محاربة الفساد في القضاء لا يمكن أن تتم بطريقة القائمات المعدة، وإنما إنطلاقا من أبحاث إدارية تقوم بها التفقدية العامة، وهي كما قلنا تحت سلطته بواسطة وزير العدل وإجراءات تأديبية أمام المجلس تحترم فيها الضمانات الاساسية للقاضي وحقوق الدفاع، وهو أمر لا يناسب برنامجه في علاقة بالقضاء. كما أن المجلس لم يكن ليجاري الرئيس في حجر الأساس لمشروعه المتعلق بالصلح الجزائي وإصدر رأيا استشاريا يرفض هذا المرسوم. وهي كلها أسباب في رأيي مباشرة لحل المجلس وتعويضه بمجلس مؤقت في فبراير 2022 ليتدخل عليه مجددا في يونيو من نفس السنة ويمنح نفسه حق التسلط على رقاب القضاة وأرزاقهم وإعفائهم بجرة قلم وافتتاح أبحاث جزائية ضدهم بدون وقائع تنسب إليهم، وإنما بنص المرسوم ذاته، مما خلق حالة من الرعب لدى عموم القضاة أفضى لمشهد القضاء «الخاضع المستكين الذي تشاهدونه اليوم.
يعتبر المجلس الأعلى للقضاء بتونس المنتخب في 23 أكتوبر 2016، تجربة جريئة وفريدة في العالم العربي وشمال أفريقيا، عرفت النور بعد ولاد عسيرة نكاد نصفها بالقيصرية لو تحدثنا عن الصعوبات والأسباب التي حدت بالبعض إلى وأد ذلك المولود؟
بالفعل يمكن اعتبار تجربة المجلس الأعلى للقضاء التونسي سليل دستور 2014 تجربة فريدة، واعتقد أنها الأولى من نوعها في العالم العربي. فهي تجربة قطعت مع النمط السائد في اعتبار القضاء شأن خصوصي يهم بالأساس القضاة ودوائر السلطة عموما، وهو في الحقيقة أمر طبيعي بعد حصول الثورة التونسية والتي كان من بين مطالبها القضاء المستقل وإجراء الاصلاحات القضائية اللازمة بعد أن تسبب في عديد المظالم قبل الثورة. ورغم أن هذه الاصلاحات لم تجد طريقها بسهولة بعد الثورة، ومن ذلك أن السلطة السياسية وليدة الثورة استعادت بعد الثورة بعض ممارسات حقبة الدكتاتورية ومنها إجرائها لحركتين قضائيتين سنتي 2011 و2012 بواسطة وزارة العدل واستعانت بالمجلس الأعلى للقضاء الموروث عن الدكتاتورية. كما وقف المجلس التأسيسي المنبثق إثر انتخابات 2011 ضد إنشاء الهيئة الوقتية للقضاء العدلي التي نص عليها التنظيم المؤقت للسلط العمومية والذي إلزم به نفسه عبر رفض المصادقة على القانون المنظم لها واسقاطه منذ فصله الأول. غير أنه في النهاية نجحت نضالات القضاة بالأساس في فرض التخلي نهائيا على المجلس الأعلى للقضاء القديم وإحداث الهيئة الوقتية للقضاء العدلي التي أسند لها بالأساس الإشراف على المسار المهني للقضاة وتأديبهم، بالإضافة إلى أبداء الرأي الاستشاري في مشاريع القوانين المتعلقة بالقضاء. وأذكر أننا واجهنا (كنت عضوا منتخبا بهذه الهيئة) عديد العراقيل في عمل الهيئة، وكانت السلطة السياسية تحاول الحفاظ لنفسها عن موطئ قدم في التسميات القضائية، لا سيما منها ما يتعلق بالوظائف السامية والمواقع القضائية الحساسة في التفقدية العامة والمعهد الأعلى للقضاء ومركز الدراسات القانونية والقضائية، أو بإلحاق القضاة، وهو ما اضطرنا إلى خوض صراعات مع الحكومة بلغت حد التقاضي الإداري. ورغم ذلك فأن الهيئة نجحت في إنجاز مهامها الأساسية، وكانت أولى تجارب القضاء المنفتح على غيره من المهن باعتبارها كانت في ربع تركيبتها المتشكلة من عشرين عضوا متكونة من المحامين والأساتذة الجامعيين، وفي نصفها من القضاة المنتخبين، والربع المتبقي من القضاة المعينين بصفاتهم. وهذه التجربة ألقت بضلالها على أعمال إعداد الدستور الجديد، واصبحنا أمام تحوط أكثر من السلطة السياسية، ولذلك تواصلت النضالات بالنسبة للقضاة وبدأت المطالب التي كانت تجمع مختلف الفئات غداة الثورة تصبح فئوية شيئا فشيئا لتقتصر في الأخير على القضاة وبعض مكونات المجتمع المدني. ولكن ضرورة صدور دستور يحضى بالإجماع الوطني أنتج وضع باب في الدستور يتضمن الأرضية الأساسية لبناء القضاء المستقل وذلك بالتنصيص فيه لأول مرة على القضاء كسلطة، وأن المجلس الأعلى للقضاء بتركيبته المنفتحة على المهن القضائية يضمن حسن سير القضاء واحترام استقلاله وهي تختص بالمسارات المهنية للقضاة كاملة وتأديبهم، ويوحد الأقضية الثلاثة عدلي وإداري ومالي، بالإضافة إلى إسناده دورا استشاريا وجوبيا في كل ما له علاقة بالقوانين المتعلقة بالقضاء أو الإجراءات القضائية.
غير أن المسالة لم تنته بمجرد وضع الدستور فبمجرد الانطلاق في تنزيل مقتضياته ضمن القوانين الأساسية، وبالخصوص ضمن القانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء، برزت من جديد رغبة السلطة السياسية في تحجيم دور المجلس الأعلى للقضاء المرتقب، فغابت في رأيي الأمانة في تنزيل مقتضيات الدستور لأرض الواقع، وسعت السلطة التنفيذية كما في كل مرة في الإبقاء على حضورها القوي في المؤسسة القضائية. ولذلك كانت مرحلة وضع قانون المجلس الأعلى للقضاء مرحلة جديدة من الصراع بين القضاة والسلطة، أو بين الجهات السياسية فيما بينها أو بين مجلس النواب والحكومة نفسها (استقالة وزير العدل على خلفية إجراءات عرض قانون المجلس الأعلى للقضاء على مجلس نواب الشعب). ولذلك كانت النتيجة التأخير في إرساء المجلس الأعلى للقضاء، والذي حدده الدستور بستة أشهر بعد المصادقة على الدستور في حين أن قانون المجلس الأعلى للقضاء لم يصدر إلا في أبريل 2016، وإرسائه بصورة فعلية في أبريل 2017، فضلا عن الطعن المتكرر في دستورية القانون أمام الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين والتي قضت في مناسبتين بعدم دستوريته وعجزت عن الحسم في دستوريته في مناسبة ثالثة، لانقسام أعضاء الهيئة مع تزايد الحرب الكلامية والاتهامات المتبادلة. والمهم في ذلك أن قانون المجلس الأعلى للقضاء بقي رهين موقف رئيس الجمهورية أنذاك والذي قام بختمه بعد استفتاء بعض أساتذة القانون العام بالجامعة ليصبح قانونا من قوانين الدولة.
ولكن الإشكال لم ينتهي عند هذا الحد، فقد رفضت السلطة التنفيذية (رئيس الحكومة) نشر تسميات إصدرتها الهيئة الوقتية للقضاء العدلي التي تواصل عملها بمقتضى الدستور إلى حين إرساء المجلس الأعلى للقضاء، وهي تسميات تهم وظائف قضائية سامية، هم أعضاء بحكم صفتهم في المجلس الأعلى للقضاء المرتقب بحجة أن هذه التسميات من شأنها التأثير على تركيبة المجلس، وأن الهيئة الوقتية لا تملك إصدار هذه التسميات بعد انتخابات المجلس. والحال أن منحى التدخل في التركيبة عبر الوظائف السامية كانت السلطة التشريعية بينته بوضوح في مصادقتها على قانون المجلس باصطفاء الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بتونس بعضوية المجلس بالصفة قبل غيره من الوظائف السامية التي تسبقه في جدول التشريفات القضائية. وهذا الصراع أثر على إرساء المجلس الأعلى للقضاء بعد تمسك الهيئة الوقتية للقضاء العدلي بموقفها وإصرار الحكومة المدعومة من الأغلبية البرلمانية على رفض نشر التسميات القضائية، وبالنتيجة رفض رئيس الهيئة دعوة المجلس للانعقاد بسبب النقص في تركيبة المجلس، وهو ما حدا بالحكومة التوجه من جديد إلى مجلس النواب وتنقيح القانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء وإسناد صلاحية الدعوة لانعقاده إلى رئيس مجلس نواب الشعب، مع التنصيص على إمكانية الطعن في هذا التنقيح ولو بدعوى تجاوز السلطة. وهو ما تم بالفعل، لتنعقد الجلسة الاولى للمجلس الأعلى للقضاء يوم 28 أبريل 2017 بالمقر الفرعي لمجلس نواب الشعب.
في رأيي، أن هذا المسار الذي شهده إرساء المجلس الأعلى للقضاء يضعنا أمام حقيقة أن المسألة القضائية هي حقيقة جوهر الحكم في أي نظام وأن القضاء المستقل هو المحرار الأساسي لقيس ديمقراطية الأنظمة من عدمه، ولذلك كان الصراع شديدا حوله، فالقضاء هو السلطة التعديلية الدائمة أمام سلط سياسية غير دائمة فضلا عن أن هذا المسار يبين أهمية أن تكون القوانين أمينة مع الدستور حتى لا تتأثر المؤسسات الوليدة فيما بعد وتقوم بدورها كاملا وفقا لما يحدده الدستور ولا يتحول الهدف منها إلى عنوان دون محتوى.
ما وجه التميز والريادة في تجربة المجلس الأعلى المنتخب حسب رأيكم؟
رغم النقائص فيمكن اعتبار أن تجربة المجلس الأعلى للقضاء التونسي المنبثق عن دستور 2014 تجربة رائدة، هي الأولى من نوعها على حد علمي في الوطن العربي، فهو أولا مجلس ذو مكانة دستورية ويعهد إليه السهر على حسن سير القضاء واحترام استقلاله ويتمتع بالاستقلال المالي والإداري، وهو بالخصوص مجلس منتخب ومنفتح على سائر المهن ذات العلاقة بالقضاء. فكما تعلمون فأن تاريخ القضاء التونسي هو تاريخ الإنغلاق والتحفظ ولم ينتج ذلك قضاء مستقلا بقدر ما أنتج، أولا تفرقة بين الأقضية الثلاثة عدلي وإداري ومالي، وثانيا سمح للسلطة التنفيذية بالتحكم في مفاصله عن طريق رئيس الجمهورية ووزير العدل بالنسبة للقضاء العدلي، ورئيس الجمهورية والوزير الأول بالنسبة للقضاء الإداري والمالي، ولذلك يعتبر المجلس الأعلى للقضاء الوليد قطعا تاما مع هذه التجربة في تونس، فهو مستقل تماما عن السلطة السياسية وأعضائه منتخبون في ثلثيهم، وفي الثلث المتبقي من القضاة المعينين بصفاتهم والذين يساهم المجلس نفسه بتسميتهم عبر آلية الترشيح الحصري[1] في الوظائف السامية، وآلية الرأي المطابق في خصوص غيرهم من الصفات الأعضاء بالمجلس، وآلية الانتخاب التي تحكم ثلثي تركيبة هذا المجلس مكرسة أيضاً في انتخاب هياكله، لاسيما رئيسه. مما سمج بتجاوز معظلة الرئيس المعين بمقتضى القانون والذي عادة ما يكون رأس هرم الجهاز القضائي وهي تجربة اثبتت فشلها في الماضي القريب في الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي.
هذا المجلس يتمتع بصلاحية حصرية في خصوص المسارات المهنية للقضاة من تعيين وتسمية وترقية ونقل وتأديب، وهي صلاحيات حصرية ومطلقة عبر آلية الرأي المطابق،[2] والتي لا تملك سلطة إصدار أمر التسمية (رئيس الجمهورية) نقاشها، وبالتالي تحييد أي تدخل سياسي في مسارات القضاة المهنية.
يعد المجلس أيضا سلطة اقتراح للاصلاحات الضرورية للمنظومة القضائية عموما، ورغم عدم وجود آلية واضحة للتعامل مع مقترحاتها من طرف السلطة التشريعية، فأنها تبقى مهمة على غاية من الأهمية للمجلس، إضافة إلى رأيه الاستشاري في مختلف مشاريع القوانين التي تهم القضاء والإجراءات القضائية، وهي استشارة وجوبية دأبت على تأكيد ضرورتها الهيئة المكلفة بمراقبة دستورية مشاريع القوانين.
يتمتع المجلس أيضا بمبدأ التسيير الذاتي ما يعزز بصورة مطلقة استقلاليته الإدارية والمالية، وهو خاصة منحه القانون السلطة الترتيبية في مجال اختصاصه، وهي صلاحية اعتبرها من أهم الصلاحيات التي منحها قانونا للمجلس الأعلى للقضاء، وسعيت بصفة خاصة إلى تكريسها خلال مدة الإشراف على المجلس.
كما أن المجلس الأعلى للقضاء يتولى تسمية أربعة أعضاء من الأثني عشرة للمحكمة الدستورية، وهو بالتالي مسؤول عن تركيز هذه المحكمة الدستورية التي لم تر النور بالنظر للصراع السياسي داخل السلطة التشريعية حول عضويتها. وكان ينظر للمجلس على أنه السلطة المعدلة في تعيين الأعضاء بما يعزز حياديتها.
للمجلس أيضا دور محوري في تحديد برامج تكوين القضاة وهو مكلف بإعداد مدونة لأخلاقيات القاضي، بالإضافة إلى الدور الذي يلعبه في تكريس الشفافية عبر الحوار المباشر الدوري مع السلطة التشريعية ورئيس الجمهورية بواسطة التقارير السنوية التي يعدها وجلسة الحوار السنوي مع البرلمان.
فمن الواضح إنطلاقا مما ذكر أن تجربة المجلس الأعلى للقضاء التونسي هي تجربة ريادية في الوطن العربي، بل أيضا في مختلف الأنظمة المتقدمة حتى الأروبية منها حسب تقديري.
ماهي العوائق الخارجية والداخلية التي حالت دون أن يقدم المجلس المنتخب أداء أمثل من خلال تجربته القصيرة والتي يمكن أن تكون من قبيل الدروس والاعتبارات في تصور أو إعادة إرساء مجال أعلى للقضاء مستقل ومنتخب أن استعادت تونس التجربة الديمقراطية؟
في البداية، لايمكن أن تفوتني الإشارة إلى عدم الأمانة التي صبغت وضع قانون المجلس الأعلى للقضاء ومحاولة واضعي التشريع خلق مؤسسة جوفاء مفرغة من الصلاحيات وخلق ثلاثة جزر متناثرة داخله، وهي المجالس القضائية القطاعية (عدلي وإداري ومالي) بحجة واهية، وهي وجود خصوصية لكل قضاء في استعادة غير بريئة لمجلس الدولة في دستور 1959، وذلك من خلال تعريف المجلس بمكوناته خلافا للرؤية الدستورية التي أرادت القطع مع الماضي وخلق سلطة قضائية موحدة وقوية تضاهي بقية السلطات وتضمن التوازن المطلوب في أي نظام ديمقراطي حقيقي، وهي محاولة نجحت فيها السلطة نسبيا، ولكنها اصطدمت بالمحاذير الدستورية باعتبار الملامح الأساسية للمجلس حددها الدستور ووضع لها عنوان ضمان حسن سير القضاء واحترام استقلاله ولذلك خلقت مجلسا مشوها في عديد جوانبه.
ولكنني اعتقد أن المدة التي مارس خلالها المجلس الأعلى للقضاء التونسي نشاطه إذا ما أخذنا بعين الاعتبار العوائق التي رافقت تركيزه ثم ممارسته لصلاحياته وظروف الأزمة الصحية العالمية المرتبطة بفيروس كورونا، والتي تعطل خلالها عمله، كتعطل عمل بقية مؤسسات الدولة تجعل من الإجحاف الحديث حول تقييم علمي وحقيقي لأدائه، وأن كان أداءه مهزوزا في عدد من المواضيع كان عليه أن يكون في شأنها أكثر جدية وخاصة إنجاز إصلاحات بالسرعة المطلوبة في علاقة باختصاصه الذي لا ينازعه فيه أحدز وأقول هذا لكي أكون أكثر قسوة على مجلس كان ينتظر منه مجهودا كبيرا في إصلاح القضاء على الرغم من أن ما سيأتي عليه، سيشفع له بنسبة غير قليلة في شأن ذلك التقصير إن أمكن تسميته كذلك. فكما تعلمون فأن مسار تركيز المجلس الأعلى للقضاء التونسي شهد شدا وجذبا غير مسبوق بين مؤسسات الدولة وبين القضاة فيما بينهم، وبينهم وبين المهن الأخرى المعنية قانونا بعضوية المجلس، وخصوصا المحاماة. فالمجلس ولد منقسما منذ بدايته بفعل تلاعب السلطة التشريعية بتركيبته منذ البداية وفرض عضوية مدير القضاء العسكري في بداية الأمر، وهو ما أسقطته الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، ثم عبر فرض عضوية الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بتونس، في مخالفة للتقاليد القضائية. الأمر الذي أثار حفيظة الهيئة الوقتية للقضاء العدلي خصوصا بعد انتخاب أعضاء المجلس وصعود تركيبة غير متجانسة بين القضاة. ولذلك سارعت الهيئة الوقتية للقضاء العدلي بإجراء تحويرات في الوظائف القضائية السامية وشملت أعضاء المجلس بالصفة وهو أمر بقطع النظر عن مدى مقبوليته، فأنه يدخل في صميم اختصاصها بمقتضى القانون وخلال مدة عهدتها طبقا للدستور باعتبارها تمارس مهامها كاملة، إلى حين تركيز المجلس الأعلى للقضاء وهو بذلك مطابق للشرعية. ولذلك فأن تدخل الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي، وبصرف النظر عن مدى ملائمته فأنه كان شرعيا، وكنت للأمانة من مناصريه، اعتبارا إلى أن ذلك التدخل سرعان ما كشف الغايات السياسية التي كانت إلى حد الآن مخفية على غير المطلعين على خفايا الأمور وجزئياتها. فقامت الحكومة بالتدخل في الموضوع بوجه مكشوف ورفضت قبول قرارات الهيئة ونشرها رغم أنها لا تملك سلطة تقديرية في هذا الخصوص مدفوعة بالانقسام بين أعضاء المجلس المنتخبين والتوافق السياسي الحاصل داخل البرلمان. الأمر الذي عزز الانقسام بين اعضاء المجلس وبين الهياكل الممثلة للقضاة وإتخاذ الهيئة الوطنية للمحامين لموقف مساند للسلطة. وهو ما دفع جزء من أعضاء المجلس ومن ورائهم السلطة السياسية بجميع رؤوسها إلى فرض الأمر الواقع والتعجيل بدعوة المجلس لأداء اليمين القانونية أمام رئيس الجمهورية منقوصا من عدد 4 أعضاء ودفع ببعض أعضائه إلى الدعوة إلى انعقاد المجلس بتركيبة منقوصة. الأمر الذي رفضته مجموعة أخرى من أعضاء المجلس، وأنطلق مسار محموم من التقاضي الإداري بين أعضاء المجلس وضع موقف الحكومة برفض نشر تسميات هيئة القضاء العدلي في الزاوية. الأمر الذي استدعى تدخل تشريعي جديد على قانون المجلس وفرض انعقاده منقوصا وبدعوة من رئيس البرلمان. وأقول كل ذلك الآن للوصول إلى العائق الجوهري الذي أثر بصفة جلية على عمل المجلس وهو اهتزاز الثقة بين أعضائه. الأمر الذي ألقى بضلاله على المجلس خلال مدته ولم يتخلص منه أبدا.
في مقابل هذا الاهتمام غير المسبوق من السلطة السياسية بانعقاد المجلس الأعلى للقضاء، اختفى فجأة هذا الاهتمام، فالمجلس الذي كان محور اهتمام السلطة السياسية لم يكن من المهم بالنسبة لها توفير مقر له ولا تمكينه من وسائل العمل من إطار إداري ولا من اعتمادات مالية ضرورية لمباشرة نشاطه، على الرغم من أن القانون كان يلزم السلطة التنفيذية بذلك. ولذلك كانت اجتماعات المجلس مرتهنة لشغور المبنى الفرعي لمجلس نواب الشعب، أين انعقدت جلسه الاولى في أبريل 2017 إلى حدود مايو 2019، متى تمكنا من استغلال مقر المجلس وأصبح يحتضن اجتماعاته.
من الواضح أن السلطة السياسية لن تسمح بقيام سلطة قضائية حقيقية، وكانت تسعى إلى حصر دور المجلس في إنجاز الحركة القضائية المهمة التقليدية للمجالس العليا للقضاء. ولذلك حاصرت المجلس حيث احتفظت بدورها في إنتداب القضاة وتكوينهم من خلال الأشراف على المعهد الأعلى للقضاء، وليس للمجلس إلا دور استشاري في مسألة برامج التكوين، كما احتفظت بدورها في الإشراف على التفقدية العامة، وبالتالي التحكم في إنطلاق المسارات التأديبية بالنسبة للقضاة، فضلا عن إشرافها الكامل على ما يسمى بإدارة القضاء وهي المسألة الأهم في إصلاح القضاء. فتولت خلال سنوات أحداث المحاكم دون الأخذ بعين الاعتبار للاحتياجات الحقيقية للمنظومة القضائية وكانت اختياراتها في هذا المجال في ظاهرها تقريب القضاء من المواطن، وفي حقيقة الأمر هي سياسوية وشعبوية وخلقت بذلك ضغطا إضافيا على المجلس الأعلى للقضاء في توزيع العنصر البشري على المحاكم.
وحتى في علاقة بالاختصاص الحصري للمجلس المتمثل في المسار المهني للقاضي والذي فرضت التجربة بعد 2011 النأي به عن أي تدخل للسلطة السياسية، فشهدنا خلال سنة 2019 استماتة من هذه الأخيرة في الاستيلاء على السلطة الترتيبية للمجلس الأعلى للقضاء، ومنعه من ممارستها ومنع نشر قراراته في توافق بين الحكومة ورئيس الجمهورية، وافتكت بذلك السلطة السياسية من المجلس صلاحية ضبط الوظائف القضائية و تحديد شروط شغلها وتحديد عدد الدوائر بالمحكمة الإدارية، وكذلك تحديد عدد مندوبي الحكومة أمام محكمة المحاسبات، وهذه السلطة الترتيبية التي منعت عن المجلس باستماتة كبيرة لم تخلق فيما بعد إشكالا عن ما تم التخلي عنها لفائدة مجلس القضاء المالي منفردا في قانون محكمة المحاسبات، أو مارسها الرئيس الأول للمحكمة الإدارية منفردا في علاقة بالدوائر الجهوية للمحكمة الإدارية، بما يقيم دليلا على السعي منذ البداية على خلق مجلس متكون من جزر متناثرة وعدم السماح له بالتحول إلى وحدة متكاملة.
ولكن المشاكل التي عانى منها المجلس كما تم بيانها لا تخفي مسؤولية أعضاء المجلس الأعلى للقضاء في استدامة هشاشته، ومن ذلك أن أعضاء المجلس لم يستبطنوا فكرة وحدة القضاء، وبالغوا في التمسك بخصوصية الأقضية على حساب قوة الوحدة.
وضم المجلس 45 عضوا، وهي تركيبة ثقيلة خلقت عديد المشاكل في علاقة بنصاب الحضور لانعقاد الجلسات، وأغلبية إتخاذ القرار. كما أن طريقة الانتخاب أوحت بأن للمجلس صبغة تمثيلية، فكان القضاة يعتقدون أنهم ممثلي القضاة والمحامين يمثلون المحامين وعدل التنفيذ يمثل زملاءه والأساتذة الجامعيين كذلك، وأن بأقل حدة وهي مسألة كانت كارثية على أداء المجلس. ولذلك كان ينبغي التأكيد على أن جميع هؤلاء يتم اختيارهم من مهنهم الأصلية لخدمة السلطة القضائية، ولا اعتبار لغير ذلك، وأنه لا مهمة تمثيلية لأي منهم وربما إعادة النظر في صيغ انتخابهم وشروط ترشحهم كفيل بتحقيق ذلك، وربما التفكير في حصر أعضاء المجلس في عدد أقل من الموجودين حاليا، مع ضمان تفرغهم في أداء مهامهم حيث شكل عدم تفرغ أعضاء المجلس إشكالا أثر أيضا على عمله. ومن ذلك أن هذا المجلس لم يستطع وضع نظامه الداخلي بالنظر للصعوبات المشار إليها أعلاه والشروط الصارمة في وضعه إذ أخضعه القانون لموافقة ثلثي أعضاءه والاستشارة الوجوبية المسبقة من المحكمة الإدارية، وهو وأن توصل إلى نسخة نهائية خلال سنة 2021، فإن الزمن لم يسعفه بالنظر إلى حله في بداية سنة 2022.
اقتراح الإصلاحات الضرورية أيضا، لم يفلح المجلس في تفعيله وأن ذلك يعود بالأساس لغياب آلية واضحة لتفعيل هذه الصلاحية. وأذكر أن المجلس حاول تفعيلها إنطلاقا من مقترح قانون محل إجماع وطلب الجميع، ولايطرح اإشكال ويتعلق بتعليق الآجال على خلفية تعطل مصالح المتقاضين بمناسبة "وباء كورونا". غير أن المجلس التشريعي تولى رمي مقترح المجلس في سلة المهملات بدعوى عدم أحقيته باقتراح القوانين، والحال أن التنصيص في الدستور كان صريحا في منحه هذه الصلاحية.
وخلاصة القول أن المجلس كان أداءه مهتزا خلال الفترة القصيرة التي مارس خلالها مهامه، ولكن لا يمكن تحميله لوحده المسؤولية عن ذلك، فالسلط جميعها عملت على فشله، عوضا عن إنجاحه ولكم في التفاصيل أعلاه خير دليل على ذلك.
بتاريخ 12 فبراير 2022، إتخذ الرئيس قيس سعيد مرسوما حل المجلس الأعلى للقضاء الشرعي وإحداث مجلسا مؤقتا بعد إعادة تنظيم المجلس الأعلى للقضاء. برأيكم ما الأسباب المباشرة التي أدت إلى ذلك المرسوم؟
في الحقيقة لم يكن رئيس الجمهورية يخفي رؤيته المختلفة في خصوص تركيبة المجلس الأعلى للقضاء، فهو أولا يعتبره شأنا قضائيا ولا دخل لبقية المهن القانونية في تركيبته ويرفض أن يكون هذا المجلس منفتحا عليهم، وكان رأيه واضحا في هذا الخصوص قبل انتخابه رئيسا للبلاد وبعد انتخابه عمل على تكريس هذه الرؤية. وبالفعل وضعها في المرسوم عدد 11 المتعلق بحل المجلس الأعلى للقضاء الشرعي، وتعويضه بمجلس مؤقت يتركب من قضاة معينين بالصفة وقضاة متقاعدين يعينهم بنفسه، وألغى بذلك بصفة كلية مبدأ انتخاب المجلس لأول مرة في تاريخ البلاد، باعتبار أن حتى المجلس الأعلى للقضاء في العهود السابقة ضمت تركيبته قضاة منتخبين من رتبهم وأن كانت انتخابات صورية. فمن حيث المبدأ كان رئيس الجمهورية ضد مواصلة المجلس الأعلى للقضاء المنبثق عن دستور 2014 مهامه وكان يعتبره أحد تمظهرات تفتيت الدولة ومحاولة "تفجيرها من الداخل" كما يقول، ولذلك وقف بشدة ضد تمكين المجلس من ممارسة سلطته الترتيبية، وشن حملات متواصلة على المجلس وأداءه، ولكن موقفه لم يكن لغاية تصحيح أداء المجلس بقدر ما كان لإعداد الارضية للإجهاز عليه، وهو ما تم بمقتضى المرسوم المذكور والذي سبقه مرسوم يلغي امتيازات أعضاء المجلس بعد حملة عليهم بدعوى أن هذه الامتيازات غير مستحقة. والحقيقة أن رئيس الجمهورية كان يرغب في إخضاع القضاء وهو ما عبر عنه صراحة في خطابه يوم 25 يوليو 2021 بنيته ترأس النيابة العمومية قبل أن يتخلى عن ذلك، كما كانت غايته التدخل في المسارات المهنية للقضاة، ولذلك تحدث مطولا عن ضرورة تطهير القضاء قبل حل المجلس. وكان ردنا في كل مرة أن عملية التطهير أو لنقل محاربة الفساد في القضاء لا يمكن أن تتم بطريقة القائمات المعدة، وإنما إنطلاقا من أبحاث إدارية تقوم بها التفقدية العامة، وهي كما قلنا تحت سلطته بواسطة وزير العدل وإجراءات تأديبية أمام المجلس تحترم فيها الضمانات الاساسية للقاضي وحقوق الدفاع، وهو أمر لا يناسب برنامجه في علاقة بالقضاء. كما أن المجلس لم يكن ليجاري الرئيس في حجر الأساس لمشروعه المتعلق بالصلح الجزائي وإصدر رأيا استشاريا يرفض هذا المرسوم. وهي كلها أسباب في رأيي مباشرة لحل المجلس وتعويضه بمجلس مؤقت في فبراير 2022 ليتدخل عليه مجددا في يونيو من نفس السنة ويمنح نفسه حق التسلط على رقاب القضاة وأرزاقهم وإعفائهم بجرة قلم وافتتاح أبحاث جزائية ضدهم بدون وقائع تنسب إليهم، وإنما بنص المرسوم ذاته، مما خلق حالة من الرعب لدى عموم القضاة أفضى لمشهد القضاء الخاضع المستكين الذي تشاهدونه اليوم.
بتاريخ 1 يونيو 2022 نقح رئيس الجمهورية مرسومه المذكور بالمرسوم عدد 35 لسنة 2022 وإتخذ ذات اليوم ونشر في ذات الرائد الرسمي أمرا يعفي بناء على التنقيح الجديد 57 قاضي. هل تبين مع مرور الوقت معيار تلك القائمة؟
بالفعل، كان يوم 1 يونيو 2022 يوما غير عادي بالنسبة للقضاء التونسي، وهو اليوم الذي تولى خلاله رئيس الجمهورية بمصادقة مجلس الوزراء تنقيح المرسوم الذي لم يمر بعد ثلاثة اشهر على وضعه ليمنح لنفسه بموجب ذلك التنقيح الحق في إعفاء القضاة دون المرور عبر الإجراءات الاعتيادية لمؤاخذة القضاة ومسائلتهم، ودون الانطلاق في أبحاث من أي نوع ضدهم، وإنما بناء على ما اسماه تقارير الجهات المخولة والتي لايعرف إلى حد الآن من هي تحديدا، والأقرب أنها جهات أمنية وتولى في نفس اليوم إعفاء 57 قاض وقاضية بناء على مؤاخذات في خطاب توجه به من مجلس الوزراء بشأن وقائع لا علم للمعنيين بها عدا قلة قليلة. كان موضوع تتبع أمام المجلس الأعلى للقضاء الشرعي في قائم عهدته، ولم يتضح إلى الآن معيار إعداد تلك القائمة ودوافع إعفاء هذا العدد غير الهين من القضاة، ومن شارك في إعدادها. ولكن القراءة التي ترسخت بمرور الوقت وأيدتها الصيرورة اللاحقة للوضع القضائي هي أن هذه القائمة تضمنت استهدافا بالاساس لممثلي القضاة الشرعيين في المجلس الأعلى للقضاء. فتضمنت القائمة رئيس المجلس وأربعة أعضاء منه بتركيز جلي على مجلس القضاء العدلي دون غيره من المجالس، واستهدف كبار المسؤولين على المحاكم الكبرى على غرار محكمة الاستئناف بتونس وخاصة استهدفت القائمة السلسلة الجزائية في مختلف المحاكم، فتضمنت عدد من الوكلاء العامين لدى محاكم الاستئناف ووكلاء الجمهورية بمحاكم كبرى ومساعديهم وقضاة تحقيق متعهدين بملفات هامة، لا سيما بقطب مكافحة الإرهاب، وتم وضع كل ذلك تحت غطاء محاربة الفساد. والحال أن الإعفاء استهدف قضاة مشهود لهم بالكفاءة والحياد والنزاهة، ولم تتعلق بأغلبهم أي مؤاخذات في هذا الخصوص خلال مسيرتهم المهنية غير القصيرة. ولذلك يمكن القول بأن الخيط الناظم في قائمة الإعفاءات هو السيطرة على مختلف جوانب السلسلة الجزائية والتحكم فيها عبر إزاحة قضاة لم تكن السلطة السياسية راضية على أدائهم.
عرف المرسوم والأمر المذكوران بالسؤال السابق احتجاجا من جزء من المجتمع المدني المناهض لخرق دستور 2014، ولكن كذلك موجة تضامن واسعة من بقية السادة القضاة، وقد أعلنت جمعيات القضاة الإضراب الذي رفع بعد قرار المحكمة الإدارية تمتيع بعض القضاة بإيقاف تنفيذ أوامر الإعفاء، إلا أن رفض الامتثال لتلك القرارات لم يشهد تضامنا واحتجاجات من قبل السادة القضاة بمثل ذلك المستوى ضرورة أن قرار عدم الامتثال أخطر ويمس استقلالية القضاء هيكليا كسلطة أكثر من قرارات الاعفاء التي تمس الاستقلالية العضوية أو الفردية للقضاة المعنيين بالأمر. بما يفسر الرئيس يوسف بوزاخر تراخي الاحتجاج والتضامن رغم تعقد و ازدياد خطورة انتهاكات السلطة علما بأن السادة القضاة في تونس يمتلكون الرقم القياسي العالمي في مدة إضراب القضاة (أكثر من شهرين) وكان ذلك للمطالبة بطلبات مادية؟
بالفعل رد فعل القضاة في تونس بعد صدور أوامر الإعفاء الجماعي كانت في مستوى الانتهاك الحاصل. وخاض القضاة أشكالا نضالية تمثلت في إعلان الإضراب العام الذي استمر نحو شهر من الزمن، والذي تولت على أثره السلطة استهدافهم بالخصم من أجورهم، كما حركت جهاز التفقدية العامة ضدهم، فاستهدفت رئيس جمعية القضاة بالتتبعات التاديبية والجزائية، وشرعت في هرسلة بقية القضاة، مما خلق نوعا من الخوف الذي بدأ يتنامى شيئا فشيئا، خصوصا أمام تخلي جزء غير قليل من المجتمع المدني عن إسناد القضاة، لاسيما منهم الهيئة الوطنية للمحامين الفاعل الأساسي في المنظومة القضائية بعد القضاة التي ساندت قرارات السلطة. وأذكر أنها أصدرت بيانا تدعو فيه السلطة إلى عقاب القضاة على إيقاف العمل بالمحاكم، مما خلق عزلة للقضاة في علاقة بهذا الموضوع وسرعان ما إنفض الجميع من حول القضية وترك القضاة لوحدهم في المعركة بعد نزع كل الضمانات الوظيفية والهيكلية عنهم بموجب المرسومين 11 و35. ولذلك لما صدرت قرارات إيقاف التنفيذ عن المحكمة الإدارية، امتنعت السلطة مدفوعة بمؤيديها داخل المجتمع المدني والنشطاء عن الإذعان لهذه الأحكام مقابل تمكن الخوف من الجسم القضائي، ولذلك لم يكن رد فعلهم بخصوص الامتناع عن تنفيذ أحكام إدارية في مستوى واجبهم في الدفاع على نفاذ قرارات المحاكم. رغم انني على قناعة من أن الاحتجاج على عدم نفاذ الأحكام أولى وأكثر شرعية ومشروعية من الاحتجاج على إجراء الإعفاء في حد ذاته وينزع عن الجميع بما في ذلك من هللوا لمجزرة الإعفاءات أي إمكانية للومهم على أي أسلوب نضالي يتم إتخاذه في هذا الخصوص. والحقيقة، اعتقد أن أي سلطة سياسية لا يقلقها أي نضال يتخذه القضاة بشأن مطالب مادية أو قطاعية بحتة، بقدر ما يقلقها النضال عن جوهر القضاء، وهو الاستقلالية والتمسك بمبادئ الدفاع عن الحقوق والحريات والمحاكمة العادلة ولذلك لم نلحظ أن رد الفعل إزاء إضراب القضاة خلال وقت غير بعيد لمدة شهرين لتحقيق مطالب مادية بحتة يضاهي رد الفعل الذي لقيته نضالاتهم بمناسبة مجزرة الإعفاءات، فضلا عن أن مسألة الدفاع عن نفاذ الأحكام القضائية ودولة القانون، لا يمكن أن يكون حكرا على القضاة وحدهم ولكن على سائر مكونات المجتمع، لإن أثار عدم الإذعان ذاك سيمتد إلى غيرهم عاجلا أو أجلا، وهو ما تم بصفة لاحقة في مسألة النزاعات الانتخابية مثلا.
هل تعتبرون قرار هيئة المحامين رفض ترسيم القضاة المعفيين هو تماهي منها مع السلطة ومساهمة في التنكيل بهم؟ أم هي صفقة نظرا لتوقيت القرار؟ أم هو اجتهاد قانوني قطع مع تاريخ المهنة وتقاليدها ومناصرتها لحقوق الإنسان والحقوق والحريات؟
الحقيقة، أنني في البداية كنت أرفض قطعيا تحميل الهيئة الوطنية للمحامين المسؤولية عن وضعية القضاة المعفيين، خصوصا بعد صدور قرارات إيقاف تنفيذ قرارات الإعفاء، ولكن صدور قرارات الرفض الجماعي لترسيم القضاة عموما بجدول المحامين والمعفيين منهم خصوصا فضح نية الهيئة الوطنية للمحامين في المساهمة في التنكيل بهم، ورفض ترسيمهم بعد أن استدرجتهم لمدة قاربت السنتين، وتولت التحرير عليهم بخصوص تتبعات قضائية تعرف الهيئة أنها تخالف مبدأ المحاكمة العادلة وسلامة الإجراءات من حيث الشكل، ووقفت على تفاهتها من حيث الموضوع. ولكن ويا للعجب استعملت ذلك لتبرير قرار رفض ترسيمهم وما أقوله في هذا الخصوص، أن قرارات الرفض تسيئ لهيئة المحامين ولتاريخ المحاماة المساند حتى في أكثر الفترات التي تماهى فيها مع السلطة للمبادئ الكونية المتعلقة باستقلال القضاء والمحاكمة العادلة. ولذلك، فأن ما أقدمت عليه الهيئة هو تفريط في إرث المحاماة المناضلة، وهو من غير الممكن تبريره تبريرا قانونيا كان ليحترم لو اقتصرت عليه، وهو احتفاظ القضاة بصفتهم بمقتضى قرارات إيقاف تنفيذ أوامر الإعفاء، ولكنها أوغلت في الإساءة لنفسها بإتخاذ القرار، أولا في خصوص جميع القضاة متقاعدين ومستقيلين ومعفيين، ومن بين المعفيين من لم يحصل منهم على قرار في إيقاف التنفيذ لأمر الإعفاء، وتقدم بطلب الإدراج بجدول المحامين. ورغم ذلك، رفضت ترسيمه وثانيا في البحث عن حجج واهية غير الحجة القانونية المشار إليها ومنها حجج عبثية كعدم معاينة طالب الإدراج لمكتبه الدور الذي من المفروض أن تقوم به فروع الهيئة وأن إتخاذ هذا القرار الجماعي الذي صرح عميد المحامين بنفسه إعلاميا بخلافه يطرح عديد التساءلات حول دوافعه الحقيقية. ولا أريد الحديث عنه بمنطق الصفقة المبرمة مع السلطة ولكن الثابت أنه مساهمة في التنكيل بهم وأتمنى ألا يكون الدافع وراء هذا الرفض ما جاء على لسان الكاتب العام للهيئة في تصريح صحفي بأن انضمام القضاة إلى المحاماة مظلمة أن أوان إنهائها، وهي منافسة غير مشروعة، لأن هذا الدافع إهانة للمحاماة قبل أن يكون حجة لرفض إدراج القضاة.
برغم ما قد يعاب على جمعية القضاة التونسيين من مواقف طيلة فترة الانتقال الديمقراطي، عرفت وتميزت تلك الجمعية بتشبثها باستقلالية القضاء ومناصرة القضاة المعفيين مما أعاق بقية جمعيات القضاة عن لعب دورها الطبيعي في ذلك، خاصة أن بعضها تماهت مع السلطة السياسية التي لا ترى القضاء إلا وظيفة وقمرا يدور في فلكها؟
بطبيعة الحال أن جمعية القضاة التونسيين هي الممثل التاريخي الوحيد للقضاة قبل الثورة، وهي التي تم داخل هياكلها بلورة نضالات القضاة وأدبيات الدفاع عن استقلال القضاء، وكونت موروثا لا بأس به في هذا المجال على مر الأجيال، ومن الطبيعي أن تتصدر مشهد الدفاع عن القضاة المعفيين، وقبل ذلك تمسكها بالمجلس الأعلى للقضاء كمؤسسة ضامنة للاستقلال الوظيفي للقضاة. في حين أن بقية هياكل القضاة من نقابات وجمعيات، وأن كانت بدورها وقفت مع القضاة المعفيين في البداية ولكننا لم نر لها ركزا عند استهداف المؤسسة القضائية وحل المجلس الأعلى للقضاء والانحدار بوضع القضاء إلى مجرد وظيفة خاضعة. ومرد ذلك في تقديري حداثة هذه الهياكل التي نشأت بعد الثورة وفي فسحة من الحرية، ولم تقارع سابقا تغول السلطة التنفيذية واستهداف القضاة مثلما تم مؤخرا، وهذه الفسيفساء الموجودة داخل الجسم القضائي، تعكس في الأخير وضع القضاة أنفسهم ومدى تشبثهم برسالتهم الحقيقية في الدفاع عن الحقوق والحريات والتزامهم بالدفاع عن شرف القضاء ويمين القضاة. ويستدعي تفكيرا عميقا في أسباب هذا التردي غير المسبوق رغم أن أغلبية القضاة المباشرين اليوم، هم من الذين باشروا المهنة بعد الثورة، أي في فسحة من أمرهم ولم يعرفوا من قبل غطرسة الاستبداد الذي عاشه القضاء قبل الثورة.
ماذا عن الإجراءات الدولية والتقاضي الدولي؟
بدون شك، فأن الإزمة التي عرفها القضاء التونسي انطلاقا من حل المجلس الأعلى للقضاء في فبراير 2021، إلى أزمة مذبحة القضاة في يونيو 2022، كانوا محل تعهد من مختلف الأجهزة الدولية. ومن ذلك أن منظومة الأمم المتحدة، وخاصة منها الإجراءات الخاصة، هي في متابعة مستمرة لأزمة القضاء التونسي. فتولينا تعهيد المقرر الخاص لاستقلال القضاء والمحاماة بمختلف الانتهاكات التي استهدفتنا، وتولى مكتب المقرر المذكور متابعة شكاياتنا، وتقدم بطلب رسمي لزيارة تونس والوقوف على حقيقة الوضع، وهو طلب لم تستجب له الدولة التونسية. كما تعهد المقرر الخاص بحرية الاجتماع وتكوين الجمعيات، والمقرر الخاص حول حرية الرأي والتعبير، والمقرر الخاص حول وضعية المدافعين عن حقوق الإنسان بالحالة التونسية، وأصدار جميعهم بيانا مشتركا في 31 مايو 2024، تحت عنوان "لا بد من وقف التدخل في القضاء وهرسلة المحامين في تونس". بالإضافة إلى، عديد البيانات الأخرى خاصة من المقرر الخاص باستقلال القضاة والمحامين.
كما أن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، توجه بطلبات رسمية للسلطات التونسية في علاقة بالمجلس الأعلى للقضاء وبتنفيذ الأحكام الإدارية الصادرة لفائدة القضاة المعفيين دون جدوى فعلية. وبذلك فأننا لم ندخر جهدا في التعريف بما استهدفنا من انتهاكات جسيمة. بل أننا توجهنا أيضا للمحاكم الدولية، ومنها أصدرت المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب قرارا في خصوص المراسيم التي استهدفت المجلس الأعلى للقضاء والقضاة، من بين ما شمله الاستهداف أثر الإجراءات الاستثنائية المعلنة في تونس سنة 2021. كما أصدرت نفس المحكمة قرارات احترازية في خصوص شكاوى فردية تقدم بها مجموعة من القضاة المعفيين ضد المرسوم 35، وأمرت المحكمة بإعادتهم اإلى سائر وظائفهم دون جدوى. كما أنني توليت شخصيا تعهيد لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بشكوى فردية ضد الإجراءات التي استهدفتني كرئيس للمجلس الأعلى للقضاء الشرعي وضد أمر إعفائي الجائر. فعلى الرغم من تشعب الإجراءات الدولية واشتراطها استيفاء طرق التقاضي الداخلي، فأننا طرقنا جميع أبواب التقاضي الدولي في غياب انتصاف فعال على المستوى الوطني. وتبقى المعظلة في متابعة هذه القرارات الدولية قائمة أمام عدم استجابة السلطات التونسية لمختلف الدعوات والأحكام.
من خلال تجربتكم بالمجلس وكقاضي ورجل قانون وبصرف النظر عن التوظيف السياسي الممل لمسألة مقاومة الفساد وسياسة العصا والجزرة المتبعة من تقريبا جميع الحكومات المتعاقبة بدرجات متفاوتة، هل يمكن وضع نصوص وإجراءات لمقاومة أنجع للفساد الذي ينخر القضاء بمختلف قطاعاته؟
الحقيقة أن مسألة مقاومة الفساد في القضاء موضوع ملح، ولكن لا يمكن طرحه في غياب سياسة عامة لمكافحة الفساد. ويمكن القول بأن مؤشرات مكافحة الفساد معلومة ومحددة في مختلف الاجتهادات والمعاهدات والمواثيق الدولية التي عملت على هذا الموضوع، وحددت الممارسات الفضلى في هذا المجال. واعتقد اأن ما تضمنه دستور 2014 في الباب الخامس المتعلق بالسلطة القضائية يصلح أن يكون أرضية صلبة لمباشرة الاصلاحات اللازمة في هذا المجال، باعتباره يتضمن أحكاما تشدد على استقلالية القضاة من جهة، وتحميلهم المسؤولية من جهة أخرى. فالقاضي يحمي الحق والحرية وهي وظيفته الأساسية. ولذلك أولا، ينبغي مطابقة كافة النصوص القانونية مع النصوص المتعلقة بالحقوق والحريات، وكذلك بتبسيط إجراءات التقاضي. وثانيا، لما لا التوجه نحو تعميم تجربة القضاء الفردي لتحميل المسؤولية بصورة واضحة للقاضي المتعهد بالنزاع، إضافة إلى توفير الزمن القضائي، وهو أحدى معضلات النظام القضائي التونسي بجميع فروعه العدلية والإدارية والمالية. مما يعني ضرورة مباشرة إصلاحات تشريعية كبيرة، تكون بالأساس مسؤولية السلطة التشريعية. وثالثا، لا بد من توفير الموارد المالية والبشرية اللازمة عبر الترفيع في ميزانية العدالة، بما يضمن تحسين الولوج إلى العدالة، والتوجه نحو قضاء القرب بإعادة دراسة الخارطة القضائية التي ظلت تحكمها طلبات، أما قطاعية أو جهوية، دون دراسات حقيقية للجدوى. ورابعا، الإصلاح ينبغي أن يشمل إدارة القضاء بمفهومه الضيق المتعلق بتسيير المحاكم وتوزيع العنصر البشري وتعيين القضايا ورقمنة الوثائق وغيرها من التفاصيل التي تبدو غير مهمة، ولكن وقعها كبير على شفافية العدالة ونجازها وربح الزمن القضائي. وخامسا، آن الأوان لتحديد الخيار الملائم في علاقة بإدارة القضاء بمفهومه الواسع، بما يعنيه من إشراف على المحاكم وإشراف على العنصر البشري من قضاة وإداريين وكتبة. إضافة إلى معضلة الإشراف على الضابطة العدلية، وتقييم التجربة التي سارت عليها البلاد منذ الاستقلال من إشراف السلطة التنفيذية، وافضت إلى ما افضت إليه، ولما لا اسنادها للمجلس الأعلى للقضاء باعتباره الضامن لحسن سير القضاء واحترام استقلاله، والذي تم تعليق مختلف أوجه الفشل خلال الفترة القصيرة، التي باشرها وتمت محاسبته على ذلك وتحميله المسؤولية، وهو أمر محمود في تحول الذهنية العامة نحو تحميل المسؤولية للمجلس الأعلى للقضاء، في كل ما يتعلق بالقضاء، وهو الذي لم يتم تمكينه من هذه الآليات، اعتبارا إلى أن ذلك يرسخ ثقافة الفصل بين السلطات في الدولة. ولكن لا ينبغي تغييب حقيقة أن المجلس لم يتحوز أي من الآليات المذكورة المتعلقة بإدارة القضاء وتمكينه من هذه الآليات مستقبلا حتى نتجنب الوصول إلى نفس النتيجة عبر أي مجلس آخر يفتقر إليها ولنفس الأسباب.
هذا بالنسبة للإصلاحات التي أراها ضرورية على المستوى التشريعي والخيارات السياسية. وأما على المستوى الهيكلي القضائي، فأنه لا مناص من وضع قانون للمجلس الأعلى للقضاء، يكون منتخبا في غالبية أعضائه مع وضع شروط صارمة للترشح لعضويته وأحكاما توسع دائرة الناخبين والحفاظ على تجربة الانفتاح على المهن القضائية، باعتبارها أثبتت جدواها خلال الفترة القصيرة التي مارس خلالها المجلس الأعلى للقضاء الشرعي عمله، مع ضرورة معالجة مسألة تضارب المصالح واشتراط تفرغ أعضاء المجلس للعمل داخله.
أما بالنسبة للإجراءات التي ينبغي توفرها لمحاربة الفساد في القضاء في علاقة بمسؤولية القضاة، فاعتقد أن الضرورة ملحة لتركيز جهاز تفقد مستقل يتمتع أعضاءه بالخبرة والاختصاص اللازم في مختلف المواد القضائية، يتولى إجراء مهمات تفقد مستمر للعمل بالمحاكم، وتمكين هذا الجهاز من الوسائل المادية والبشرية اللازمة لمباشرة الأبحاث بالسرعة والجدية المطلوبتين في خصوص الأفعال التي تنسب للقضاة، وعلى ضوء مدونة سلوك تكون واضحة المعالم، كمراجعة نظام العقوبات بإعادة النظر في القانون الأساسي للقضاة الموروث عن حقبة قديمة ترفض الموازنة الحقيقية بين واجبات القاضي وحقوقه.
وفي نفس الإطار، ينبغي في تقديري إعادة النظر في تركيبة المجلس الأعلى للقضاء عند انتصابه للنظر في المادة التأديبية، حيث تقتضي المعايير الدولية أن يكون مجلس تأديب القضاة يتكون من أغلبية منتخبة من نظرائهم. إن ذلك لا يمنع من التفكير في مرحلة انتقالية أسوة ببعض التجارب بتعهيد دوائر قضائية مختلطة بين مختلف الأقضية عدلي وإداري ومالي، بمسألة تأديب القضاة، لاستعادة الثقة العامة قبل المرور إلى المطابقة مع المعايير الدولية وتعهيد المجالس المنتخبة بذلك مع ضبط الإجراءات والآجال أمامها بدقة.
وللحوصلة، أقول بأن محاربة الفساد في القضاء، لا يمكن أن يكون بمعزل عن الإصلاح التشريعي الشامل سواء على مستوى الخيارات العامة وتأهيل النصوص القانونية أو على مستوى البناء الهيكلي لنظام القضاء والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة أو على مستوى الأجهزة الرقابية وآليات الرقابة والتأديب عموما. وفي غير ذلك، اعتقد أننا بصدد نفس الأسباب التي تؤدي حتما لنفس النتائج.
هل ترى أن التونسيين قطفوا برفض هيئة الانتخابات الإذعان لقرار المحكمة الإدارية، ما زرعوا بسكوتهم عن رفض وزارة العدل الإذعان لقرارات إيقاف تنفيذ القضاة المعزولين؟ أي انعكاسات لتلك الظاهرة؟
بالفعل، كان لظاهرة عدم الامتثال لقرارات المحكمة الإدارية وهي الجهة المخولة حصريا لمراقبة شرعية القرارات الإدارية أثرا مباشرا على زعزعة الثقة في القضاء ووفي دولة القانون عموما. وهو أمر في الحقيقة غير جديد، فالسلطة السياسية عادة تسعى للاحتفاظ لنفسها بهامش مراوغة الأحكام القضائية والإحجام عن تنفيذها. ومن ذلك أذكر أن مسودة دستور 2014، نصت على تجريم الامتناع عن تنفيذ الإحكام القضائية، ولكن تمت الاستعاضة عن ذلك في النسخة النهائية للدستور بمجرد التحجير دون جزاء. إن امتناع السلطة الحالية عن تنفيذ قرارات إيقاف تنفيذ أوامر الإعفاء الصادرة لصالح القضاة، ورغم ما يعنيه ذلك من تعمير لذمة الدولة وتنصيص القانون على أن ذلك من قبيل الخطأ الفاحش، رغم إشارة صريحة من رأس السلطة التنفيذية بإمكانية لجوءهم إلى القضاء الإداري، وضعنا جميعا خارج إطار دولة القانون. والمؤسف في ذلك أن من رجال القانون وبعض الشخصيات العامة وبعض المجتمع المدني من اجتهد في تبرير ذلك. والنتيجة هي أن عدوى عدم الامتثال انتقلت إلى الرأي العام، وإن كان محدودا ومنه إلى هيئة الانتخابات التي رفضت تنفيذ أحكام باتة في المادة الانتخابية لأول مرة، بل أنها سمحت لنفسها بمناقشة فحواها واستنتاج قابليتها للتنفيذ من عدمها. وما لم يتجدد الوعي بخطورة هذه المسألة وضرورة التصدي لها، فأن الانتهاكات للحقوق ستظل متواصلة. ولا يلوح لي في الأفق أن النخبة المدنية والسياسية قد استوعبت الدرس بدليل عدم وقوفها مع القضاة أولي الحق بموجب الأحكام القضائية بصورة جادة وفعلية. ولكن أيضا بما تعلنه من مطالبات مثلا بإلغاء المرسوم 54 المتعلق بالجرائم المرتكبة عبر الانترنت بدعوى انتهاكه لحرية التعبير. دونما إشارة لضرورة إلغاء المرسومين 11 و35 الذان يضعان السيوف على رقاب القضاة متناسين أن المشكل ليس في المرسوم المذكور في حد ذاته وإنما طريقة تطبيقه من القضاة.
هل لكم فكرة على تجارب دول الجوار فيما يخص استقلالية القضاء ومقارنتها مع التجربة التونسية؟
الحقيقة، أنني اطلعت على بعض التجارب في جوارنا الإقليمي، واعتقد أن التجربة المغربية جديرة بالاهتمام، وأن كانت السلطة السياسية رغم المجهود الذي بذلته في تكريس بعض معايير استقلال القضاء، لكنها في المقابل احتفظت بموطأ قدم برئاسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وبالتالي التحكم النهائي في قراراته. وهو أمر تجاوزه الدستور التونسي لسنة 2014 وقانون المجلس الأعلى للقضاء الشرعي في تونس عبر آلية الرأي المطابق المتعلق بحركة القضاة وفرض آلية الترشيح الحصري المتعلق بالوظائف القضائية السامية فضلا عن تمتع المجلس الأعلى للقضاء التونسي بالاستقلالية الإدارية التامة والتسيير الذاتي.
كما تمر ليبيا بتجربة جديرة بالاهتمام، حيث أن المجلس الأعلى للقضاء يشرف تقريبا على إدارة المحاكم، إضافة إلى دوره التقليدي المتعلق بالمسارات المهنية للقضاة، ولكن حالة الانقسام السياسي وتقسيم النفوذ الأمني والعسكري في ليبيا، يمنعنا من تقييم حقيقي لهذه التجربة. أولا، لأن نفاذ القضاء عموما يبقي رهين موافقة مختلف مركز القوى الفعلية أمنيا وعسكريا، وبالتالي يصعب الحديث عن سيطرة إلقاء عموما على مسألة فض النزاعات خصوصا منها الجزائية. وثانيا، اعتقد أن الحالة السياسية، جعلت المجلس الأعلى للقضاء في فسحة من اهتمام السلطة السياسية التي لا تعتبر القضاء من أولوياتها. ولذلك، أنصح الزملاء في ليبيا بمراكمة الممارسات الجيدة ومضاعفة الجهد لتثبيت دعائم القضاء المستقل وتمكينه من المخالب الضرورية، لمجابهة عودة السلطة السياسية للوضع الطبيعي الذي ستسعى خلاله حتما إلى قضم صلاحياته وذلك عبر كسب الثقة العامة للمواطنين في القضاء.
وفيما عدا ذلك، اعتقد أن المنطقة عموما تحكمها النمطية التقليدية للمجالس العليا للقضاء التي تكتفي بصلاحيات دنيا تجعلها تابعة للإرادة السياسية عموما، والتنفيذية خصوصا، ولا يزال الطريق أمامها طويل للوصول إلى المعايير الدولية لاستقلال القضاء التي تراكمت على مر التاريخ من مختلف التجارب.
__
[1] المجلس لا يتولى التسمية في بعض الخطط وانما ينفرد بصلاحية الترشيح
[2] لا تملك سلطة التسمية مخالفة ما أقره المجلس أي أن صلاحية التسمية شكلية ولا تتجاوز ذلك إلى قبول أو رفض المقترحات

